
فرنسا لا تستسلم بسهولة لفكرة خروجها من المسرح اللبناني، ومن هذا الباب يعود المبعوث الرئاسي جان إيف لودريان إلى بيروت هذه المرة وفي جيبه أكثر من سؤال ووعود أقل من أن تقنع أحداً، بأن فرنسا قادرة على تغيير الواقع اللبناني.
تريد فرنسا أن تقول إنها ما زالت هنا، لكن الحقيقة هي أن النفوذ الفرنسي في لبنان يتآكل، والقرار الفعلي بات عند الأميركيين، فيما تتحرك باريس ضمن هوامش ضيقة، تستخدم فيها أدوات قديمة مثل “اليونيفيل”، وأخرى جديدة مثل شركة “توتال” التي تتحول من شركة طاقة إلى لاعب سياسي بامتياز.
مصادر سياسية مطلعة تؤكد عبر “النشرة” أن فرنسا عندما سعت جاهدة للتمديد لليونيفيل في لبنان لم تكن تبحث عن المصلحة اللبنانية بوجه المصلحة الإسرائيلية، بل تبحث عن مصلحتها بإبقاء وجودها العسكري في لبنان قائماً وحماية موقعها الاستراتيجي على الحدود مع اسرائيل، لذلك سيكون لملف اليونيفيل والتمديد لها ومرحلة ما بعدها حيزاً من نقاشات لودريان في بيروت، إلى جانب الملف الأساسي أي “مؤتمرات دعم لبنان”.
سيلتقي الموفد الذي يزور لبنان اليوم، كمبعوث فرنسي لرئيس خسر حكومته منذ أيام على وقع الأزمات الإقتصادية، لمدة أقل من 48 ساعة رؤساء الجمهورية والنواب والحكومة، وبحسب المصادر فإن السفارة الفرنسية في بيروت تتحدث عن لقاءات للرجل في قصر الصنوبر دون توضيح طبيعتها، مشيرة إلى أن البحث الأساسي سيكون في مصير مؤتمرات دعم لبنان، علماً أن المسؤولين في لبنان يُدركون أن خلف المساعي الفرنسية معضلة عميقة وهي قدرة باريس على عقد مؤتمرات دون الرضى الأميركي.
وبحسب المصادر، فإن مؤتمرات الدعم ليست عملاً خيرياً كما يُسوَّق لها، بل ترتبط دوماً بشروط سياسية وإصلاحية محددة، الشرط الأول، أميركياً، هو الحديث المباشر عن سلاح حزب الله وترسيم التوازنات الأمنية في الجنوب، بينما الشرط الثاني، مالياً، هو تنفيذ إصلاحات قاسية يطالب بها صندوق النقد الدولي، تتعلق بالمصارف والقطاع العام والكهرباء، أما الشرط الثالث فهو ربط أي مساهمة خليجية بمدى التزام لبنان بالمسار الأميركي وتحديداً في ما يخص السياسة الخارجية والسلاح وضبط النفوذ الإيراني.
تشارك فرنسا اليوم بفعالية في قوات اليونيفيل، كما أن عبر شركة “توتال” لها حصة وازنة في ملف الغاز اللبناني، وبالتالي تمتلك حضوراً ولكنه لا يُجيّر لصالحها، ولا صلاحية لديها باستثماره، إذ ليس سراً أن باريس تحاول اليوم تعويض انكفائها السياسي عبر الاقتصاد. شركة “توتال”، التي دخلت على خط استخراج الغاز من الحقول اللبنانية، تتحرك وفق أجندة سياسية، وهي لا تزال تحرم لبنان من التقارير الحقيقيّة حول أعمالها الاخيرة في البلوك 9 في البحر اللبناني، بمعنى آخر، “توتال” تعمل كذراع دبلوماسية بقدر ما هي شركة نفط، تنفذ ما تريده باريس، وما تُريده باريس يحدده الأميركي الذي لطالما عرقل المساعي الفرنسية عندما لم تكن في صالحه.
المصادر السياسية نفسها تشدد على أن الأميركيين لا يمانعون تحركات فرنسا، لكنهم يحددون خطوطها الحمراء، كما دائماً، فواشنطن ليست في وارد ترك باريس تتحرك بحرية، بل تستخدمها، تماماً كما حصل في اتفاق وقف إطلاق النار ولجنة المراقبة، حيث لا تُعطى باريس صلاحيات داخل اللجنة وكأنها الشاهد الزور الذي أراد الأميركي من خلاله تغطية إسرائيل اوروبياً.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن زيارة لودريان إلى بيروت ليست سوى محاولة لإعادة تثبيت دورٍ يتآكل، عبر “اليونيفيل” عسكرياً، عبر “توتال” اقتصادياً، وعبر المؤتمرات دبلوماسياً. لكن في الجوهر، فرنسا بلا أدوات حقيقية، وتتحرك تحت سقف أميركي واضح، فهل يستطيع لودريان أن يقنع اللبنانيين والعالم بأن بلاده ما زالت لاعباً وازناً في لبنان؟.